إرادة العودة في نجومية الجراح مُنْجِد المُدّرِسْ

شارك المقال:

مقال بعنوان: إرادة العودة في نجومية الجراح مُنْجِد المُدّرِسْ

 

قلت له: أرجو ألا تعتبر كلامي نكتة لأنها حقيقة حدثت في فلسطين، أصيب طفل في ركبته برصاص مطاطي، خاف كثيراً عندما قال له البعض: سيقطعون قدمك إنها تنزف كثيراً، جاءت جدته العجوز وقالت له: قدمك ملكك أنت، إن قررت أنها ستشفى  فستتعافى، إن استسلمت لخوفك ستخسر قدمك وسيقتلك الخوف؟ نظر الطفل بعيون جدته ثم مسح الدم عن ركبته وقف ورمى حجراً آخر على قوات الاحتلال ثم ركض عائداً لبيته!

لم يضحك الجراح العالمي منجد المدرس ولم يضحك أحد الحاضرين لحفل توقيع كتابه الثاني الذي يحمل عنوان إرادة العودة (GOING BACK By Munjed AL Muderis)، قال لي: التحدي يبدأ بالعقل والعقل قادر على صنع المعجزات، أنا أتعامل مع معاقين حركيا، وأرجو أن تفهم كلمة إعاقة حركية بمعناها الحقيقي، المعاق قد يفقد القدرة على تحريك قدمه لكنه يمتلك دماغه الغير معاق، يبدأ الدماغ بالتكيّف مع الوضع الخاص بالإعاقة فتراه يبتكر طرقا متنوعة لتحقيق مبتغاه دون أن يكون بحاجة لقدمه المعاقة، وأقول لك أن تجربة ربط قدم شخص سليم ثم تركه ليبتكر طرقا جديدة للوصول لمبتغاه تكون أقل إبداعاً من الطرق التي يتوصل لها الشخص المُعاق، كما أن هناك أشخاصا لا يمتلكون أي إعاقة لكنهم يتوهمون والخوف يشل تفكيرهم، نعم التحدي الحقيقي هو الانتصار على الخوف ثم التكيف مع طبيعة الجسم.

قصة الطبيب الجراح العراقي منجد المدرس مليئة بالقصص الرائعة، فهو شخصية مميزة لها تاريخ طويل مع التحدي، وهو سليل عائلة عراقية عريقة لها جذور مع آل البيت الكرام، درس الطب وتخصص بجراحة العظام في العراق، وكان دائماً متفوقاً ومجتهداً في عمله. وهو يصف بغداد بأنها كانت تضاهي سدني في التسعينيات من القرن الماضي، وكل التكنولوجيا المتطورة تصل العراق وخاصة بالمجالات الطبية، إلا أن الحكم المستبد لصدام حسين كان صعباً على كل العراقيين، وليس صحيحاً أن صدام كان ضد الأكراد أو الشيعة، بل  كان ضد كل من يحاول أن يعارضه من العراقيين.

وروى لنا حكاية غيّرت حياته: قد حدث أن كنّا بغرفة العمليات فدخل علينا ضباط من الحرس الجمهوري معهم مجموعة من المعتقلين وطلبوا من كبير الجراحين أن يقطع آذان المعتقلين لأنهم يتجسسون على أمن الدولة لذا لابد أن يصابوا بالطرش، رفض كبير الجراحين، فأخذه بعض الضباط خارج غرفة العمليات وسمعنا بعدها إطلاق نار، عاد الضباط وقالوا لقد مات النجس ومن يريد أن يعارض سيلحق به، فأخذ الجراحون يتحركون بشكل جنوني، أما أنا فقد آثرت أن أهرب ولكن إلى أين؟ أنا أرفض الإجابة المحاصرة بنعم أو لا، خصوصاً بالمواقف التي تدفعنا إلى ابتكار حل ثالث، أنا أريد أن أقول لا دون خسران حياتي، إذن سأحاول الهرب وإن مسكوني سيعرفون أن جوابي كان لا، هربت عن طريق الحمامات، وخرجت إلى الشارع، لكن الذي يعرف الحرس الجمهوري العراقي أيام صدام حسين وكيف يسيطر على البلد لابد أن يهرب أبعد من المستشفى، بل لابد أن يهرب خارج البلاد.

عائلتي ساعدتني كثيراً فلها معارف ذوو نفوذ، هربت إلى الأردن ثم إلى ماليزيا وهناك بدأت أشعر قليلاً بأنني بعيد عن سطوة الحرس الجمهوري، وكثيرة هي الصدف التي تجمعني مع العراقيين وهم دائما يهربون من الظلم والاستبداد، وغير صحيح أن الوضع الاقتصادي هو سبب الهجرات، العراق بلد غني ومتعدد الثروات،  العراق بالتسعينيات من القرن الماضي كان يوظف أكثر من ثلاثة ملايين من جنسيات عربية وآسيوية.

إن مسألة التسلل عبر القوارب الصغيرة إلى أستراليا كان الحل الوحيد لي، وأعرف أن العديد منكم سيقول أن هذا لا يتناسب مع كوني جراح عظام وعائلتي غنية مادياً، لكن الحقيقة أن الوضع بالنسبة للشرق الأوسط صعب للغاية، فخدمات وكالة غوث اللاجئين نادرة في بلادنا، وإذا فكر شخص بتسليم نفسه كلاجئ لدول عربية أو آسيوية فسيتم ترحيله للعراق، وهناك سيتم حبسه بتهمة الإساءة لسمعة النظام السياسي، وقد يقتل قبل أن يحاكم، هذا كله أيام الطاغية صدام حسين.

الرحلة إلى أستراليا بدأت من أندونيسيا حيث كنت أنتظر رد المهرب في الفندق، وحدثت طرفة مع المهرب، فقد جاء إلى غرفتي وقال لي: أنت طبيب هل هذا صحيح؟ فقلت له: نعم أنا جراح، قاطعني وقال لي: هناك شيخ دين عراقي ذو كرامات وبركة، عنده قطعة قماش عليها قطرات من دم الشهيد الحي الحسين عليه السلام ومعه القليل من التراب جلبه من فوق القبر الشريف، سينثر هذا التراب على البحر حتى لا يعلو الموج علينا، وسوف يمسح بالقماش على القارب حتى لا يغرق، لكن معه ابنته وهي حامل ويريد من يعتني بها حتى يُركِّز هو بعمله لجلب البركة والكرامات لقاربنا، فقلت له إذن أنت تريدني أن أعتني بها طبياً، وهذا يتطلب أن تجلب لي بعض الأدوية والمعدات لا أعرف إن كنت ستقدر على ذلك، فقال لي: أكتب لي كل شيء تريده وسوف أحضره وحقا فعل!

قوارب الموت التي تعبر المحيط لأستراليا هي الأمل الأخير للاجئين في الشرق الأوسط لكم أن تعرفوا أن أغلب اللاجئين، أي حوالي 80% من اللاجئين الهاربين من الحروب يسكنون بالأردن ولبنان وبعض البلدان اللفقيرة بالشرق الأوسط، وضعهم مأساوي وميؤوس منه، وكل الذين استطاعوا الوصول للدول الغربية لم يتجاوزوا 20% ولا أحد يعلم كيف يفكر من يصل إلى أستراليا، فتجربة الهروب من الموت تولد عنده عقدة دائمة أنه مطارد وأن هناك شيء ما سيقتله، لا تستغربوا إن سمعتم عن أشخاص يعيشون في أستراليا منذ أكثر من عشرة سنوات ومازالوا يضعون مبالغ نقدية كبيرة في بيوتهم، أو أنهم يشترون تموينا غذائيا كبيرا يكفي العائلة لمدة شهور، هذه العقد النفسية الصعبة ترهق تفكير المهاجرين الجدد ولا استثني نفسي من هذا الشعور المرعب.

الفاشية العنصرية تغزو العالم فهي تمدد سرطاني توسعي خطير ضمن سياسة الرئيس الأميركي ترامب تجاه الملونين كافة فكما أنه ضد المسلمين فهو يبني جدارا ضخما ليمنع الهجرة من أمريكا اللاتينية وكل سياساته صريحة ووقحة في كل شيء يفعله، فهو يرى القتل والبطش ولا يحرك ساكناً إلا إذا تضررت مصالح النخبة الحاكمة بالعالم، لقد قُتِلَ أربعون مسيحياً في نيجريا الشهر الفائت، لم يحرك ساكناً، لقد حدثت مجزرة في نيوزلندا لم يهزه شيء. الغريب أن البعض يحاول أن يقلل من خطر نظرية تفوق الجنس الأبيض ويدعون أنها تختلف عن النازية، وبصراحة قرأت كل تفاصيل هذه النظرية ولم أجد إلا أنها امتداد للنازية البغيضة، لا أحد يشعر بأمان في أي مكان بالعالم مادام هذا الفكر غير محظور، فقد استغربت أن الانترنت مليئ بهذا الفكر وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، لماذا لأنهم لا يصنفونه فكراً إرهابياً، يجب على كل دول العالم: اعتبار نظرية تفوق الجنس الأبيض نظرية إرهابية.

في الجراحة قمت بعلاج أشخاص من جنسيات مختلفة، لا يوجد جسد يتفوق على جسد بتقبله العلاج لأنه ينتمي لعرق بشري معين، قمت بعلاج جنود من بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية وكذلك عالجت أفرادا من أفغانستان والعراق ولبنان والأردن لم أجد فرقاً واحداً بين أجساد الأعراق البشرية، الفرق الوحيد هو إرادة كل انسان وإيمانه أنه قادر على العودة للحياة من جديد، بعد أن يكون قد فقد قدمه أو جزءا منها، هذا التحدي يبدأ بالاقتناع أن هناك قوة داخلية قادرة على تحريك الأمل داخلنا.

قد تكون حياتي المهنية صعبة فهي تتعامل مع الإعاقة وخاصة القدم، وهناك فرق كبير بين الإعاقة والمرض: إن المرض يتسلل إلى الجسم بشكل تدريجي و يؤثر على وظائف أعضاء الجسم، أما الإعاقة فهي تحدث فجأة وبدون مقدمات، قد يدوس الجندي على لغم أو قد يطلق جندي رصاصة على قدم إرهابي، وقد تكون مجرد حادث مروري أو سقوط من الطابق العلوي، المشترك بين كل هذه الأمور أنها تحدث فجأة وبدون مقدمات، وهي بالغالب لا تؤثر على وظائف الجسم أي أنها لا تعيق كل الجسد.

Osteointegration أو الاندماج العظمي نظرية متطورة في استخدام البرمجيات المعقدة لتقوم بعمل الركب الاصطناعية وكذلك باقي حركات الرِجل الآلية، وقد درس منجد المدرس هذا الاختصاص في ألمانيا، ويعتبر من الرواد لهذه الطريقة في أستراليا، وقد أبدع بعمله حتى نال شهرة دولية وأصبح صاحب منهج خاص به، وهو العراقي الأصيل لم ينسَ العراق، وقام بزيارة العراق خمس مرات ويجهز نفسه لزيارة سادسة في شهر نيسان/ إبريل، فقد عالج بنجاح 420 حالة إعاقة بالعراق وهو فخور بذلك، ويقول لكل من يقول أنه مجرد رمي حجر بالمحيط بأنه يرى المستقبل بطريقة مختلفة، فالعراق بلد الإبداع والتقدم وأن هناك جيل واعد من الجراحين العراقيين وهو جزء من كل، ولا يمكن أن نقول أن 180 ألف عراقي معاق بسبب الحروب لن نتمكن من علاجهم، بل سنعالجهم أنا وكل جراحي العراق وكل المتطوعين بالعالم، المهم أن لا يزيد هذا العدد أكثر من ذلك، نريد أن يعم السلام والأمن بالعراق.

 

بقلم خالد غنام أبو عدنان

ولدت لاجئاً وأحيا مهاجراً

20/3/2019

 

 

 

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة