دراسة بعنوان: اللاجئون الفلسطينيون حق الجنسية ورفض التوطين
بقلم خالد غنام أبو عدنان
الطائر الأسود يدافع عن شهواتنا بينما الطائر الأبيض يقاتل من أجل فطرتنا في لوحة أنا أريد للفنان البولندي توماس كوبيرا (Tomasz Alen Kopera). سؤال إجابته متحركة بين أمواج نزوات الذات وأركان الأنا.
في غرائب التاريخ سجلت البشرية فظائع الحروب في حق الشعوب؛ مجازر ومحارق وسبي وتهجير، لم تنج منها أمة من أمم القاطبة، والقانون الأساسي في الحرب أن المنتصر يقرر مصير المنهزم، وأحيانا مصير أقوام أخرى تعتبر مهزومة لأن سندها القوي هزم، ولعل حروب الفرس والروم خير دليل على هزيمة بلاد دون قتال: مثل اليمن والحبشة ومصر القبطية والحيرة والمناذرة والغساسنة وقائمة تطول في تاريخ شعوب لم تقرر مصير نفسها، فهي مثل سبايا الحروب جارية ذليلة من قوى كانت تحكمها إلى قوى صارت تحكمها.
الحال لا يختلف نهائيا بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي كان تحت الحكم العثماني وانتقل إلى الحكم العسكري البريطاني، رغم أن الشعب الفلسطيني كان مع الثورة العربية الهاشمية لا التاج البريطاني إلا أن قوات الهاشمين لم تدخل أرض فلسطين، ولم يسقط لها أي شهيد على أرض فلسطين، ولم يرفع علم الثورة العربية المنتصرة على أسوار القدس، بل كان العلم البريطاني واستلم البريطانيون القدس.
وكان بالقدس مائة ألف لاجئ هربوا من القصف المدفعي القادم من الأساطيل البريطانية والفرنسية، هؤلاء اللاجئون لم يسمح لهم بالعودة لقرى ومدن الساحل الفلسطيني إلا بعد خمسة سنوات، وقد قامت القوات البريطانية بصرف هويات لاجئ من الحرب لهم، باستثناء اليهود الذين تم توطينهم بالقدس وعدم السماح لهم بالعودة.
ومن جانب آخر تم ترحيل جماعة الهيكليين الألمان التي كانت تستوطن خمسة قرى في الساحل الفلسطيني لمصر، وتم استخدام الكنيسة المسكوبية في القدس كسجن لم وصفوا بأنهم فلول النظام العثماني، وسجن تل المنطار للضباط العرب من الجيش العثماني. كما تم فرض حظر التجول على عموم الجزء الجنوبي لفلسطين، حيث أن الجزء الشمالي كان لا يزال مع القوات العثمانية، وفي أوراق الهوية تم كتابة عبارة ممنوع من التواجد خارج مكان سكنه إلا بإذن من القيادة العسكرية.
عندما نقرأ تفاصيل التفاصيل في الحياة الفلسطينية أثناء الحكم العسكري البريطاني نلاحظ أن القرارات العسكرية لم تعامل الفلسطينيين كحلفاء حرب، كما فعل البريطانيون في العراق وشرق الأردن، بل أن هذه القرارات لم يتم فيها استشارة قيادة الثورة العربية الهاشمية، وخلال تلك الفترة لم يكن هناك أي طموح فلسطيني بالاستقلال عن الثورة العربية رغم أن العرب لم يحرروا فلسطين ولم يسعوا لفك عزلة فلسطين عن جسم البلاد العربية الخاضعة لسلطة الهاشميين، بل على العكس من ذلك طلب من الثوار الفلسطينيون الالتحاق بقيادة الثورة في دمشق وعمان وترك فلسطين للجيش البريطاني حليف العرب، ولم يكن عدد خمسة آلاف مقاتل فلسطيني رقما صغيرا في تلك الحقبة، لكنهم ذابوا مع بقية الثوار في دمشق وكلهم تحت لواء الجيش العربي. هؤلاء الفلسطينيون شكلوا أول هجرة فلسطينية طوعية للبلاد العربية وقد تم تجنيسهم بصفة ثوار الجيش العربي.
وبما أن الجيش البريطاني دخل فلسطين من سيناء فقد سميت هذه العملية العسكرية باسم الحملة المصرية لتحرير الأراضي المقدسة، وقد تم سماح للمصريين بالعمل داخل أرض فلسطين، بل أن الخدمات العسكرية ومباني الحكم الإداري العسكري كان ممنوع توظيف الفلسطينيون بها، وقد تم استخدام المصريين في الترجمة وتطبيق القانون، كما تم السماح بتحويل العملات للجنية المصري وتم السماح للبنوك المصرية بالعمل في فلسطين، كما تم منح إقامات مؤقتة للموظفين المصريين، وتم منح الجنسية المصرية لكل الفلسطينيين الذين كانوا يقيموا في مصر قبل الحرب، كل هذا قبل بداية للانتداب البريطاني.
الغريب أن قانون الجنسية الفلسطينية الذي أقر عام ١٩٢٧ استثنى العاملين الفلسطينيين في العراق ومصر معللا ذلك بلوائح القانون الضريبي وكذلك تم استثناء السجناء لدى سلطات الانتداب وكذلك الفلسطينيون المهاجرون في البلدان الأوروبية والأمريكية، وفي عام ١٩٢٩ تم وضع قانون خاص بالشركات الإمبريالية الدولية يوصي بأن سحب العمال والفلاحين من السوق الفلسطينية للمهاجر في الأميركتين وكذلك افريقيا سيتوجب سحب الجنسية الفلسطينية ومنح الفلسطينيين كامل الحقوق والواجبات مثل العمال والفلاحين المحليين، كما أن إعلان تشكيل إمارة شرق الأردن عام ١٩٢٣ كان له أثر كبير في تحديد الجنسية الفلسطينية، حيث تم اعتبار كل العاملين الفلسطينيين في شرق الأردن مؤهلين للحصول على الجنسية الأردنية.
وفي دراسة قانون سحب الجنسية الفلسطينية أثناء الانتداب البريطاني نلاحظ أن الكثير من المعارضين السياسيين الفلسطينيين تم ترحيلهم بحجج متعددة لكندا والولايات المتحدة الأمريكية ولم يسمح لهم بالحصول على جنسية فلسطينية ولا حتى أبنائهم، وأكثر من هذا تم تسجيل كل الغائبين عن أماكن سكنهم أكثر من شهر فاقدين الجنسية وذلك خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (١٩٣٦-١٩٣٩).
إن عمر الجنسية الفلسطينية لم يتجاوز الثلاثين سنة، وهي سنوات الانتداب البريطاني الذي قرر نيابة عن الفلسطينيين وكل العرب من يستحق الجنسية ومن لا يستحق وأكثر من هذا، فإن سلطات الانتداب حددت قوانين الاستثمار العربي في فلسطين وميزت بين مجموعة المستثمرين الغير مقيميين وآخرون يقيمون بشكل مستمر في فلسطين، وقد تم تسجيل الوكالات الدولية للمستثمرين العرب على أن يكون لهم وكيل معتمد في فلسطين. كما أن هناك تمايز بين المستوطنون الصهاينة وهم لم يخضعوا لأي قوانين حظر تجول ولا قوانين سحب الجنسية، فالقانون كان يميز بين العرب والأوروبيون، بل أن التمييز شمل الهنود والباكستانيون من الجنود البريطانيين والذين قرروا أن يتزوجوا ويستقروا في فلسطين بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية لكنهم لم يحصلوا على الجنسية الفلسطينية.
بعد نكبة سنة ١٩٤٨ فقدت فلسطين الانتداب البريطاني ولم تسع الدول العربية لتشكيل سلطة فلسطينية على ما تبقى من أرض فلسطين الانتدابية بل أنها قامت بضم الأراضي الفلسطينية لممتلكاتها وكأنها غنائم حرب، وجاء ضم الأرض بشكل فوري وضمن قرار يحسم مسألة السلطة على الأرض أما وضع السكان فقد تم إحالته لقوانين الطوارئ ومنح الفلسطينيون أوراق إقامة مؤقتة على أرضهم الفلسطينية وكذلك منح الفلسطينيون صفة الإقامة المؤقتة في الدول العربية المجاورة.
وفي عام ١٩٤٩ تم تشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وهي أولى مراحل تشكل مصطلح اللاجئ الفلسطيني، فقد تم فصل الفلسطينيين عن محيطهم العربي في مجالات التعليم والصحة ومكان الإقامة، وتم تفكيك مدن الخيام التي كانت قرب الحدود مع إسرائيل، ثم بناء مخيمات في داخل المدن العربية وفض الاشتباك المستمر بين الثوار الفلسطينيون والعرب من جهة والعصابات الصهيونية من جهة أخرى وتطبيق حرفي لاتفاقيات الهدنة وإنهاء حالة الحرب.
وبعد تشكل المفوضية السامية للاجئين كان متوقع أن تصبح الأونروا جزءا منها، لكنها بقية منفصلة عنها، وكأن اللاجئين الفلسطينيين ليسوا لاجئون بل هم استثناء للقاعدة، حللها البعض بسبب الضغوط الصهيونية الساعية لمحو قضية اللاجئين الفلسطينيين بينما وضعه البعض الآخر الملامة على القيادات العربية التي لا تريد للاجئين الفلسطينيين الخروج من عباءة الوصاية العربية.
الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن أوراق اللاجئين الفلسطينيين كانت من اختصاص الجهات الأمنية ضمن بنود العمالة الوافدة أو ذوي الإقامة المؤقتة أو السكان غير الأصليين أو الجاليات العربية وتسميات كثيرة تنوعت بتنوع شكل الحكومات، فوضع اللاجئين الفلسطينيين كان من اختصاص الهيئات التنفيذية لا السلطات التشريعية، فلم يخرج أي قرارا برلماني يحدد شكل اللاجئون الفلسطينيون في بلد عربي ما.
كما أن اللاجئين الفلسطينيين لم يسمح لهم التساوي مع مواطنين البلاد في قوانين التملك والعمل إلا في ظل حكم حزب البعث في العراق وسوريا وكذلك مصر في عهد الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وكما تم منح الجنسية الأردنية للاجئين الفلسطينيين المقيمين على أراضي المملكة الأردنية الهاشمية بما في ذلك سكان منطقة القدس العربية والضفة الغربية لنهر الأردن. وهنا يحضر مفهوم المساواة الإجبارية، نعم أنت مواطن تحت وصاية سياسية ولا تملك أن تقرر مصيرك لأن الدول الحاضنة هي من يقرر مصير القضية العربية.
فالمساواة الإجبارية تعني إعطاء كل حقوق الولاء السياسي للقيادة العربية رغم أنها ترفض منح اللاجئين أبسط حقوقها بالانتماء الطبيعي لمجتمعها الفلسطيني، فيجب على اللاجئين الفلسطينيين الانسلاخ الكلي عن روابطهم الاجتماعية مع الفلسطينيين خارج حدود الدولة المضيفة، كما أن عليهم الانصهار التام في مجتمعهم الجديد، وإن ثبت أن أحد اللاجئين الفلسطينيين خالف قواعد الضبط الإجباري، فسوف يفقد أي مميزات المساواة الإجبارية.
إن عملية ترويض اللاجئون الفلسطينيون دخلت في مراحل عديدة، كان أولها تحريك المخيمات من المناطق المعزولة للمدن الكبرى، ثم تفكيك اللحمة الاجتماعية بتحريك جديد للمخيمات، ثم تحديث لوضع المخيمات أسفر عن تحريك آخر للمخيمات، ففي فترة الخمسينيات تحركت المخيمات أكثر من أربع مرات حتى تم تحديد شكلها النهائي ليتناسب مع قرارات السلطات العربية التنفيذية التي هي نفسها لا تعرف أسباب تغيير أماكن المخيمات سوى أنها أرادت إثبات شيء أساسي للاجئين الفلسطينيين أن وضعهم هنا مؤقت وأن مستقبلهم تحت الوصاية العربية.
كانت هزيمة عسكرية ولن ننتصر إلا بالحرب لذا علينا بناء قدراتنا العسكرية حتى نصل لتوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، شعار قومي كبير تم تداوله أكثر من أربعين عاما، وفي طياته تم إخفاء مسؤوليات عديدة اتجاه فلسطين التي نسعى لتحريرها، فلسطين الأوراق الثبوتية للسكان والأراضي، فلم يتم حصر أملاك الفلسطينيين في وطنهم في أي دولة عربية ولم يتم تثبيت عبورهم الحدود نتيجة حرب سنة النكبة، والسبب وراء ذلك أن النصر العربي قادم فلا داعي للأوراق.
هناك إشاعات لا يمكن أن نعتبرها كلها كاذبة عن عمليات خاصة لجهات أمنية عربية وإسرائيلية هدفها شراء أراضي اللاجئون الفلسطينيون لصالح أفراد إسرائيليون مسرح عملياتها كل المدن العربية وأحيانا الأوروبية تم خلال شراء الكثير من الأراضي، وقد نتساءل لماذا يشترون الأراضي وهي محتلة وتحت تصرفهم، بالمقابل لماذا لا نبيع هذه الأراضي مادامت محرمة علينا، السبب المثالي لأنها فلسطين والسبب الحقيقي أن مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في البلاد العربية في خطر مستمر لذا تسعى الصهيونية لتوفير مهاجر للاجئين الفلسطينيين في كندا وشمال أوروبا واستراليا.
أوراق اللاجئون الفلسطينيون غير متوفرة معهم وأن أغلبها فقد قوته بعد موت جيل النكبة وعدم اهتمام الجيل الثاني والثلاث بنقل الملكية وحصر المواريث، ولا حتى الأوراق الشخصية، ولا يوجد أي جهة عربية ولا حتى فلسطينية تختص بحماية ملكية أراضي اللاجئون الفلسطينيون، كما لا يوجد أي قانون يجرم من يبيع أرضه للصهاينة لا في البلاد العربية ولا حتى في المحاكم الفلسطينية. كما أن هذا البيع الباطل قانونا بسبب أنها أراضي محتلة لكن لا يوجد أي جهة رسمية ترفض هذا البيع وتصرح أنه باطل، بل أن هناك إشاعات قوية تؤكد تملك إسرائيليين لأراضي عربية خارج المناطق المحتلة، في هوس صهيوني لتملك الأرض لم يشهد التاريخ أن هناك قوى تبحث عن سند ملكية للأرض رغم أنها تسيطر عليها عسكرية وعدوها لا يملك القدرة على استعادتها.
تسعى إسرائيل جاهدة لتفكيك المعضلة الخطيرة للأرض الفلسطينية التي تصنف بالغالب بأنها أراضي ميري، أي أنها وقف إسلامي أو مسيحي أو أرض أميرية أو أرض ملك للدولة، وهذا كله وفقا لأوراق الطابو البريطاني، والذي قام بتفنيد أوراق الكوشان العثماني وفصل الوقف عن الموقوف عليه في أكبر عملية تزوير شهدتها فلسطين، وهي تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة الفلسطينية عام ١٩٣٦.
وهنا نتساءل إذا تملك تاجر فرنسي أرض قرية في ألمانيا، فهل هذا يعني أن هذه القرية أصبحت جزء من خريطة فرنسا السياسية ويسري عليها القانون الفرنسي، بالتأكيد أن علم السياسة يعتبر هذا الأمر باطل ولا يمكن أن يكون مقبول بأي شكل من الأشكال، وهو يختلف عن بيع أراضي ولاية ألاسكا من روسيا القيصرية للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أن عقود المبايعة كانت بين حكومتين.
الموضوع مختلف بالفكر الصهيوني الذي لا يعتبر أرض فلسطين تخضع لقانون الملكية الفردية، بل أن يهودي لا يملك أن يبيع أرضه لغير اليهودي، وأن ملكيته للأرض نفعية وأن المالك للحقيقي للأرض هو الصندوق القومي الصهيوني والجهات المتفرعة عنه، أي أن الملكية عامة وليست خاصة، وهي تماثل مفهوم الوقف الإسلامي، أي أن الحركة الصهيونية تعمل على تحويل كل أرض فلسطين لوقف عام ملك للحركة الصهيونية، وهي تسعى أن تتملك الأرض من النيل إلى الفرات.
كما أن هناك زاوية دموية في الفكر الصهيوني ترفض إنهاء قضية اللاجئون الفلسطينيون، فهي إحدى وسائل الدعاية الصهيونية مثل الهولوكوست والحروب الطائفية بالشرق الأوسط، إن الصهيونية تعمل جاهدة على تعذيب الفلسطينيين دون قتلهم، لأن قتلهم بشكل جماعي يشكل خطر على المشروع الصهيوني، فلا يمكن حل مسألة اللاجئون الفلسطينيون ولابد أن تبقى مستمرة فهي تدر التمويل اللازم لاستمرار المشروع الصهيوني.
وفي قراءة للعديد من دراسات الكتّاب الصهاينة الباحثين في موضوع فلسطينيو المهاجر البعيدة مثل كندا وشمال أوروبا، نجد أنهم يصفون فلسطينيو المهجر بأنهم أخطر من فلسطينيو الدول العربية، فهم يمتلكون مساحة أكبر من الحرية وقادرون على تمويل نشاطات تعارض المشروع الصهيوني، وفتح علاقات مع فلسطينيو الداخل والأراضي الفلسطينية المحتلة. وتكتمل خطورة الصورة في ارتفاع نسبة الأبحاث العلمية الخاصة بالقضية الفلسطينية والتي يقوم بها الجيل للثالث من المهاجرين. هذا الجيل الذي فقد اللغة العربية وليس له ذكريات في فلسطين لكنه يناضل بشراسة من أجل فلسطين، هو جيل يعلن بصراحة أن الجنسية الأجنبية لا تسقط حقنا بالنضال من أجل تحرير فلسطين من الغزو الصهيوني.
إذن الجنسية في المفهوم الغربي عبارة عن خيار شخصي، فقد تجد شاب أمريكي وأبيه كندي وجده إيرلندي قرر أن يتزوج فتاة إيطالية ويعيشا في لندن ضمن ثقافة عولمة فرص العمل وحياة المجتمع المتعدد الثقافات يصبح دخل الفرد هو ما يحدد جنسيته، وفي مفارقة صعبة في تقديس الجنسيات الغربية في البلاد الشرقية وخاصة الهند والصين، نرى مثلا أن الصيني حامل جواز سفر غربي يتقاضى ضعف راتب الصين العادي في شركات الدولية العاملة في شنغهاي، والأمر مماثل في المدن الهندية وخاصة حيدر آباد وكلكتا.
الفرق الكبير في التعامل مع الشرقيين حملة جوزات السفر الغربية في بلادهم دفع العديد منهم التفكير الجدي باعتبار إقامتهم بالدول الغربية مؤقتة وتخضع لقانون المنفعة المادية لا الإيمان في طريقة الحياة الغربية، بل أن الشرقيين يتكتلون في معازل خاصة بهم داخل المدن الغربية، مثل الحي الصيني أو العربي أو الهندي، وهناك تجد أن تواجد الشرقي من أجل الكسب المادي فقط، أما طريقة حياتهم فهي شرقية بدرجة كبيرة وأن ارتباطه في وطنه الأصلي عال.
هذه هي ميزة الدول الغربية، أنها ليست بحاجة لولاء الجاليات الشرقية ولا تمنع نشاطاتهم السياسية والثقافية إلا المتشددة والعنيفة، ففي الدول الغربية تجد قبول عال لحرية الرأي ما دامت لا تتحول لفعل يثير الرأي العام أو يتعارض مع سياسة البلد المضيف.
ففي مفهوم اللجوء السياسي يتم تعريف اللاجئ بأنه كان ناشط سياسي وحياته تعرضت للخطر بسبب آراءه السياسية وأن الدولة الغربية تأكدت بأنه مضطهد سياسيا وستوفر الحماية اللازمة له، كما ستسمح له بمزاولة نشاطه السياسي على ألا يتعارض مع السياسة العامة للبلد المضيف. لكن البعض يرى أن الدول الغربية تعمل على وضع اللاجئين السياسيين في محميات خاصة ويتم استغلالهم لابتزاز الدول الشرقية، وكثيرا ما يتم استخدامهم كبديل للحكومات المعارضة للدول الغربية كما حدث في أفغانستان والعراق على سبيل المثال لا الحصر، فمسلسل اللجوء السياسي لا ينتهي باستقرار اللاجئ بالبلد للمضيف ولا ينتهي بعودته لوطنه الأصلي رغم أنف معارضيه، هذا ارتباط سياسي يحقق مصلحة مشتركة للدول الغربية والنشطاء السياسيين الشرقيين الذين قرروا أن يرتبطوا بالحكومات الغربية.
أما اللجوء الانساني وهو ما يتناسب وضع اللاجئين الفلسطينيين بالمجمل فهو يطالب اللاجئ بالبحث عن دخل مالي وسعي لتطوير المهارات التقنية لدخول سوق العمل، إلا اللاجئين بالعادة يواجهون صعوبة بالحصول على فرص عمل لعدة أسباب ولعل أهمها تدني مستوى المهارات التقنية وضعف تواصل الثقافي واللغوي. وهذا يدفع اللاجئون للعمل بالسوق السوداء والسعي للانغلاق الاجتماعي في الأحياء العربية، وهذا يعني أن الفلسطيني سيعيش حياة عربية في امتياز.
كثيرة هي الدراسات التي تناولت أزمة المهاجرين العرب في البلاد الغربية، والغريب أن استمرار معدلات الهجرة لا يعني أن جاذبية الدول الغربية زادت في عيون المواطن العربي، بل أن القوى الطاردة للمواطن العربي في البلاد العربية زادت بشكل المستعر في استبداد سياسي وضائقة اقتصادية أدت لفقدان الأمل بأن المستقبل يحمل تغيير حقيقي يحقق بعض طموحات المواطن العربي في وطنه، خاصة بعد سقوط بغداد وما تلاه من سقوط متتالي للنظام العربي وفشل القوى البديلة من استلام القيادة، فأصبح المواطن العربي بلا قيادة بل أن أركان القيادة دخلت في صراع فيما بينها وطالب المواطنين بقتل بعضهم البعض من أجل إنهاء أزمة القيادة واستعادة سلطة الحزب الواحد بل القائد الأوحد المتخفي تحت عباءة الطائفية الدينية أو العشائرية القبلية، ومن أجل هذا ذهبت أموال التنمية إلى مصانع السلاح وبات الاقتصاد العربي في حالة حرب ولهذا أصبح طارداً للاستثمار ولا يبحث عن شراء الذمم بل أن همه تمويل المقاتلين ودعم ترسانتهم العسكرية.
ضمن هذه الظروف يصبح اللاجئون الفلسطينيون عبء ثقيل وغير مرغوب فيه بالدول العربية، لأن وزن اللاجئين الفلسطينيين بالمعارك العربية العربية يعادل الصفر، فهم ليسوا عنصر يساعد على تحقيق الانتصار، كما أن تكاليف إعانتهم عالية، وتتفق الدول العربية كافة على أن التدريب العسكري للاجئين الفلسطينيين يشكل تهديد للأمن القومي على المدى البعيد، والسبب وراء ذلك أن ولاء الفلسطيني متذبذب ولا يمكن حسم أزمة ولاء الفلسطيني من وجهة نظر القيادة العربية، فهو دائم التقلب ولا يؤمن طرفه.
أما السؤال المهم والذي يغيب عن أذهان الباحثين: هل اللاجئ الفلسطيني يسعى للحصول على جنسية عربية بشكل فردي؟ الجواب على هذا السؤال سيكون بالإيجاب عند الغالبية العظمى من اللاجئين حسب وجهة نظري، ليس حباً بتغيير جلدهم ليصبحوا سوريون أو لبنانيون، بل لأن هناك حقوق ناقصة للاجئين الفلسطينيين لا تكتمل إلا بحصولهم على إحدى الجنسيات العربية، ولعل أهم هذه الحقوق هو حق التملك وحق العمل إضافة إلى الطبابة والتعليم وباقي الخدمات الضرورية التي يحتاجها المواطن العربي من حكومته الفقيرة أصلاً.
وحتى يكون تحليلي منطقي علينا أن نعود بالتاريخ للوراء، عندما سجل العديد من العرب أنفسهم على أنهم فلسطينيين للحصول على معونات المؤسسات الدولية، بل أن الأردن ابتكر مصطلح لاجئ اقتصادي على السكان الأردنيين الذين تضرروا نتيجة الحروب مع إسرائيل وتم تسجيلهم ضمن قوائم المنتفعين من خدمات الأونروا، وكذلك الأمر نفسه حدث في باقي دول الطوق، كما أن نازحين نكسة 1967 تم تسجيلهم على أنهم لاجئين جدد ولم يتم فصل خدماتهم عن خدمات اللاجئين من حرب 1948، وأخطر موضوع يتم تكتم عليه هو فلسطينيو القدس المقيمين في الضفة الغربية وترفض إسرائيل عودتهم للقدس وترفض الأونروا تسجيلهم في قوائم اللاجئين.
أما الخيار الطبيعي للاجئين الفلسطينيين فهو التكيف مع الوضع القائم، وهذا يعني العمل في السوق السوداء في لبنان مثلا، وقبول الفرز الطائفي في العراق، ومبايعة من يحكم أرض المخيمات في سوريا، والاستفادة من الجنسية الأردنية مع إبقاؤها مجرد جنسية مؤقتة قد تسحب بأي وقت، أما الوضع بباقي الدول العربية فهو مؤقت مهما طال أمده، هذا التكيف لا يعني عدم السعي لتطوير الوضع القائم بشكل فردي، بل أن الصفقات الفردية تعتبر الحل المثالي بالنسبة للوضع الفلسطيني، فرغم أن تملك العقارات والأراضي للاجئين الفلسطينيين في لبنان غير مسموح قانونا، إلا أن الفساد الإداري المستشري في مؤسسات الحكومية اللبنانية سمح لتسجيل الكثير العقارات بأسماء لاجئين، وفي ملف خطير يسمى أملاك منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان يتم تكتم على عمليات بيع وشراء لا يعلم بها إلا القلة من المختصين.
إذن مسألة التوطين لا تعني نسيان الحق العربي في فلسطين بقدر ما هي إنصاف لأجيال فلسطينية متعاقبة عاشت بشكل مستمر في بلدان عربية، وهي جزء من مكوناته الاجتماعية التي تخالط بشكل طبيعي داخله بالمصاهرة وحسن الجوار وأيضا جزء من مشاكله الاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن أن يكون وضع اللاجئون الفلسطينيون المشكلة الوحيدة في أي بلد عربي.
بل أن وجود الكيان الصهيوني سبب مشاكل متنوعة لدول العربية، حتى تلك التي لا يوجد بها مخيمات للاجئين الفلسطينيين، وهذه المشكلات لا تنتهي بانتهاء قضية اللاجئين، بل تنتهي بإقامة السلام العادل والشامل وانتهاء حالة الحرب التي تفرضها إسرائيل على الدول العربية، فها هي إسرائيل تقصف اللاذقية وتقوم باغتيالات في تونس والأردن وتخرق المجال الجوي للبنان ومصر دون أن يكون السبب وضع المخيمات الفلسطينية ولا حتى وضع اللاجئون الفلسطينيون.
إن ما تسعى له الإدارة الأمريكية هو فرض شكل الحل النهائي للعملية السلمية بقرارات فوقية تضع القدس خارج فلسطين وتمنع اللاجئون الفلسطينيون من العودة لوطنهم، ولكن أزمة هذه القرارات بأنها غير عملية لأنها لا تلبي الحد الأدنى لإنهاء الصراع، فقد لا نمتلك القدرة على منع تنفيذ القرارات الأمريكية لكننا نمتلك قوة الإرادة لاستمرار النضال بأساليب مختلفة، فرغم جبروت الجيش الإسرائيلي مازالت فلسطين تقدم الشهداء وتصلي بالأقصى وكنيسة القيامة، ومازال اللاجئون الفلسطينيون ينتظرون ساعة العودة وحتى فلسطينيو المهجر يناضلون من أجل الحرية لفلسطين.
قال محمود درويش شاعر فلسطين: هل الشعب الذي له شعراء كبار يملك الحق في السيطرة على شعب آخر لا شعراء له؟ وهل غياب الشعر عند شعب يشكل سبباً كافياً لهزيمته ؟ هل الشعر إيماء أم هو أحد أدوات السلطة ؟هل بإمكان شعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً ؟ إن شعبا بلا شعر شعبا مهزوم.
بقلم خالد غنام أبو عدنان
ولدت لاجئاً وأحيا مهاجراً
19/9/2018