الثورة تقتل نفسها

شارك المقال:

مقال بعنوان: الثورة تقتل نفسها

تتجمهر الأفكار برؤوس الثوار لتعلن تمردها على واقع الاحتلال، وتعلن بداية مسيرة الثورة بوضع هدف أساسي هو دحر الاحتلال وإزالة آثار عدوانه، لكن يختلف الثوار على أساليب تحقيق هذا الهدف السامي، مما يشكل فصائل وجبهات وحركات مختلفة في آليه الوصول للهدف المتفق عليه، وهذا الاختلاف يكون صحيا إذا تم ضبطه، لكنه قاتل إذا وصل لمرحلة حرب الأخوة، وهي حرب مثل باقي الحروب تبدأ بالمشادات الكلامية حتى تصل للاقتتال ومحاولة سحق رفاق السلاح وأخوة الدم والمستفيد من ذلك أعداء الثورة.

ومهما قيل عن ضرورات هذه الحرب فهو مجرد سفسطة تستند لمبدأ الآحادية عند فيثاغورث، لأنها بالنهاية لن تدمر الفصائل الأخرى فحسب، بل هي مدمرة لكل فصائل الثورة، بل تأجل الثورة لمرحلة لاحقة. إن كانت هذه النتيجة غير مقنعة للكثيرين بشكلها النظري، فمن الضروري فهم شرح مبدأ الآحادية ومن ثم معاينة واقعنا بعد ذلك.

ابتدع فيثاغورث مبدأ الآحادية ويسمى أيضا الفيثاغورثية وهو منهج فكري مبني على توحيد الله مع توحيد خلقه بالعدد واحد؛ فكل الأفكار أصلها واحد وكل الصواب أصله واحد وأن القائد الواحد يكون أقرب للصواب من القيادة الجماعية وأن الفكرة الواحدة ـحتى لو لم تكن الأكثر صوابا -قادرة على الانتشار والاستقطاب من أفكار مجزئة تبقى هامشية ومهزومة.  ومن بعد ذلك ظهرت السفسطة وهي علم الغلط في الإغريقية القديمة وتشكلت من مجموعة من الفلاسفة الذين آمنوا بالفيثاغورثية لكنهم غالوا بالشك بأي فكرة إلا فكرة الله واحد؛ فكل الأفكار مشكوك بها حتى فكرة الشك نفسها ؛ وهي تخلط بين الوهم والبديهة والعناد.

أما في علم الثورة فهم (ثوار السفسطة) الثوار الذين يتمردون على فكرة الثورة من باب أنها بديهية الوهم ووهم البديهة فانتصار الثورة يعني استقلالنا ثم سيتم احتلالنا من قوة أخرى؛ فهم لا يبحثون عن نصر الثورة بل الوصول للسلطة لحكم أبناء وأعداء الثورة معا، فلا بد أن تبقى السلطة واحدة ولابد أن يحكم قائد واحد كل الأطراف. وقد تبنى العديد من الفلاسفة نظرية العادل المستبد لمنع التمرد على القائد الشرعي –عندما يزيد ظلمه وفساده-  لأنه خليفة الله في الأرض.

مما أسس للمنهج الدوغماتي في أوروبا وهو منهج سياسي متعصب لامتلاكه الحقيقة بكل أقواله وأفعاله ويصف كل من يخالفه الرأي بالانحراف السياسي والتعصب الفكري والتزمت العقائدي وتحجر الدبلوماسي، وهو نهج الدول الشيوعية وكل من يؤمن بسياسة الحزب الواحد، وزيادة بالاستبداد يصبح حكم الشيخ المفرد أو الواحد ضمن مبدأ الآحادية عند فيثاغورث وكما رسمها المنهج الدوغماتي.

إن الفكر الثوري يؤمن بتعايش الأفكار وضرورة تقديس حرية الرأي داخل الثورة، وإن الاختلاف بالرأي لا يعني التناقض المطلق، وقد أبحر ماركس بشرح التناقض في الثورة، وتلخيص ما قاله: التناقض هو أساس الثورة ولولا التناقض لما كانت الثورة؛ ولكن هناك تناقض أساسي يكون هدف الثورة القضاء عليه أو تغييره جوهريا؛ وهناك تناقضات فرعية ناتجة على تقاطع مصالح الثورة مع نفوذ حلفاؤها (حلفاء يعني من تعقد ثورة معهم اتفاقيات لتحقيق أهداف معينة تخدمها في تحقيق هدف الثورة الأساسي ويكون ذلك ضمن التزام الثورة بمراعاة مصالح حليفها على أن يلتزم حليفها بدعم الثورة في تحقيق هدفها) تسعى الثورة جاهدة للحفاظ على هامش من استقلالية قرارتها دون أن تؤثر سلبا على المصالح الاستراتيجية لحلفائها.

وهناك  داخل الثورة نفسها تناقض يسمى ثانوي لأنه لا يؤثر على أهداف الثورة بل هو أساس التجديد والتطوير داخل الثورة خصوصا إذا كانت الثورة من أحزاب متعددة؛ ولابد من احترام النقد وبعد عن السفسطة في الحوار الداخلي لثورة؛ ومرفوض رفع درجة الخلاف للعدائية أو الصدام العنيف لأن هذا هدف من أهداف العدو الاستراتيجية، إن الثورة تنظر إلي التكامل بين أحزابها لا التطابق؛ وليس مهما في مرحلة الثورة إذا تعاملنا مع أحزاب يمينية برجوازية أو دينية، المهم تحقيق هدف الثورة بأكبر قدر من التفاف الجماهير حول قيادة الثورة الموحدة على هدفها الأساسي بقهر العدو دون أن تتطابق بالأساليب لكن تكامل فعلها الثوري يكون لمصلحة تحقيق الهدف من الثورة.

من الضروري التوسع بمفهوم التناقض الثانوي، وهو تناقض داخل جسم الثورة له إيجابياته وسلبياته إلا أن الثورة ترفض سفسطة داخلها وتطرح النقد والنقد الذاتي كأساس للمسلكية الثورية. وفي شروحات لينين لاستخدام السفسطة (تعني ابتغاء الاقناع عن طريق البراعة في المجادلة وتطويع المنطق والنسبية لا عن طريق المحاولة المتجردة لمعرفة الحقيقة)، في حل المشاكل الداخلية بالثورة بعيدا عن الموضوعية وهي منظور فكري يجرنا للمجادلة في قضايا تبعدنا عن هدف الثورة في توحيد جهودها ضد العدو كما أنها تشتت جماهير الثورة وتبعد حلفاؤنا عن التزاماتهم بدعم الثورة ويصبح هم حلفاؤنا ابتزاز أحزاب الثورة لتحقيق مصالحهم لا مصالحنا.

أما النقد والنقد الذاتي فهي عملية تقييم الايجابيات والسلبيات وضمان حرية الرأي ولكي يكون النقد بناءا لابد أن يقترن بتقديم المقترحات والحلول،  فعملية تقويم الأعمال الآخرين تكون مرحلة ثانية بعد النقد الذاتي حيث يقيم الانسان نفسه وحزبه ويحاول تصويب مساره عن طريق الاعتراف بالأخطاء ومحاولة تحجيمها ومعرفة النجاحات ومحاولة تعميمها. وهذا ما استنتجه هيجل بإن  صدام الأضداد هي مرحلة متطورة من النقد تصل الي تطوير أساليب النضال وتعزيز اللحمة بين فصائل الثورة. ومن منظور آخر طرح ماو تسي تونغ دبلوماسية ثلاثية الأطراف أي أن علاقات طرف ثالث (يكون خصم للطرفين) مع كل من طرفين متعارضين تفسح خيارات إقامة صلات مع كل منهما أفضل من صلات هذين الطرفين ببعضهما البعض، وقد انتهجه بعلاقاته الخارجية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه رفضه لحل الخلافات الداخلية لإيمانه الشديد بالدوغماتية.

ومن هنا تكون السفسطة بين فصائل الثورة إعلان قتل الثورة وتحويل الثوار عند هدفهم الأساسي الا وهو مقارعة الاحتلال إلى حرب الأخوة في مرحلة تدميرية على فكرة الثورة، فيصبح ابتزاز حلفاء الثورة عاليا، بل أن العديد من الحلفاء يسعى للسيطرة على قرار الثورة وفي مسعى أبعد يتم تحويل فصائل الثورة لجيش مرتزقة يقوم بحروب نيابة عن حليفه السياسي بعيدا عن هدف الثورة الأساسي.

إن ثورة تبدأ بجماعة صغيرة ثم تبدأ ببناء دوائر الأنصار والجبهة الإسناد وغيرها من البنى التنظيمية الهيكلية، وفي مرحلة إعلان الثورة قتل نفسها تعود الثورة لجماعة صغيرة قوامها الانتهازية المادية السلطوية التي تستبد على جماهيرها بنهج دوغماتي شرس، ومن جانب آخر تزداد شعبية ثوار سفسطة في أوساط الجماهير المضطهدة من قبل الجميع أي من العدو المحتل وفصائل الثورة المستبدة وحلفاء فصائل الثورة الانتهازيين وثوار السفسطة، والمخجل حقا أن الجماهير تفضل التعامل مع ثوار السفسطة لتسيير معاملاتها اليومية، أما مقارعة الاحتلال فتعود استفزازية لحظية فردية دون أي تخطيط أو استمرارية، لكن الجماهير الشعبية تبدأ من جديد بحلم ثورة جديدة تحقق حلم الاستقلال.

خالد غنام أبو عدنان

ولدت لاجئاً وأحيا مهاجراً

13/3/2015

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة