مقال بعنوان: البحث عن حذاء سندريلا في مخازن اللاجئين
لا هوية إلا الخيام – كتبتَ – إذا احترقت ضاع منك الوطن. والخيمة في الشعر، كالغجرية بين النساء، لا أرض لها ولا وطن. في غيابك الآني عن وطنَك، فوق أي أرض اخترت أن تعيش. ” محمود درويش”
مازالت قوافل اللاجئين العرب تتوافد إلي أوروبا في موسم الهجرة إلي الشمال، معتبرون أن وصولهم إلي المدن الغربية نهاية رحلة العذاب وانتهاء زمن الانتظار وبداية لحل مشكلاتهم العتيقة. وفي الوجه المقابلة تبحث الدول الغربية عن استقطاب المهاجرين لها وتوطينهم في مجتمعاتهم لحل مشكلاتهم الاقتصادية بأقل التكاليف. بين ما هو معروض في أسواق الهجرة العربية وما هو مطلوب في سوق العمل بالمدن الأوروبية ضاعت سندريلا لكنها عربية بامتياز. ومن جانب آخر تُقر معظم دراسات عن اللاجئين أن من يصلون بطرق غير شرعية إلي الدول الأوروبية تنطبق عليه شروط اللجوء الإنساني بفروعه المختلفة لكن هذا لا يعني أنه ينطبق عليهم شروط الهجرة للبلدان الغربية بل أن بعضهم لا يصلح للتوطين في معظم الدول الأوروبية، في خلط التعاريف والمصطلحات التي تتداخل لترسم مقاس حذاء سندريلا.
ورغم الضجة الكبرى التي أثيرتْ حول موضوع اللجوء العربي إلي أوروبا تبقى المنطقة العربية أعلى مناطق العالم اكتظاظ باللاجئين، بل أن وجود اللاجئين في العديد من الدول أكبر من أن تتحمله اقتصاديات الدول المتقدمة، ولا تصل نسبة من وصل – من اللاجئين العرب – إلي أوروبا أكثر من 3% في أكثر التقارير مبالغة في حجم هذه الظاهرة. ومهما قيل عن الصعوبات التي يواجهها اللاجئ العربي في بلاد العرب إلا أنها تفتح أبوابها للاجئين دون تمييز من يصلح ليدخلها أو من هو الممنوع من الإقامة بها. كي يكون حديثنا منطقيا، فإن دخول اللاجئين المصنّف غربياً بالغير شرعي، أي أن اللاجئ يجتاز الحدود الدولية دون أوراق ثبوتية، يعتبر الوضع الطبيعي في ظروف الحرب الأهلية التي تجتاح الأقطار العربية، بل أن معظم نقاط الحدود بين الدول المنكوبة بالحروب الأهلية والدول المجاورة مغلقة أو صعبة الوصول لطالبين اللجوء.
في الدول العربية، يُمنح اللاجئ العربي صفة الإقامة المؤقتة القابلة إلي التجديد لحين توفر الظروف الملائمة لعودته إلي وطنه أو انتقاله إلي بلد ثالث قد يكون مهجره الأوروبي. دون أن ننسى أن هناك كم هائل من اللاجئين الغير مسجلين أو المنتهية صلاحية إقامتهم في العديد من الدول العربية. وإذا ما تم استثناء اللاجئين الفلسطينيين، فإن ظروف اللاجئين العرب تُعد مؤلمة مقارنة في بلاد العالم الثالث في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، حيث يُسمح للاجئين بممارسة النشاطات السياسية وكذلك العسكرية وفقاً لمفهوم حق تقرير المصير الذي يُعطيهم حق استخدام كل السُبل لحل أزمة المواطنة وحق إقامتهم في أوطانهم مع ضمان المبادئ الإنسانية العامة: الحرية، المساواة، العدالة. إن المنظمات الدولية والدول المضيفة لمخازن اللاجئين تفرض بالأمر كل شيء داخل حدود أماكن تخزين اللاجئين فهي تحدد شكل ثقافتهم وتعليمهم وهي تحدد نوع الدواء ونوع العلاقة الاجتماعية، بل إنها بالغالب ترفض إي مبادرة فردية هدفها إقامة نشاط ثقافي أو اجتماعي بدواعي الظروف الأمنية، بل أن مخازن اللاجئين مكان مباح لكل الأجهزة الأمنية الدولية والأقليمية، وأيضا تجار اللحم الأبيض الحلال الحرام، وأيضا مافيا تهريب المهاجرين الغير شرعيين، في مخزن بشري يطرح كل الخيارات إلا خيار استعادة الوطن وعودة المواطنة لمن لجأ قسرا ولا يطمح أن يسكن قصراً.
إلا أن المستقبل القريب يُنبأ أن أعداد اللاجئين العرب سوف تتزايد، وأن أزمة المواطنة في الدول العربية ستتصاعد مع استمرار لهيب حروب أخوة الوطن في العديد من الدول العربية. مما يعني أن هناك ضغط اقتصادي مُضاعف على الدول الحاضنة للاجئين العرب ، مما أفرز أزمة بطالة حادة خلقت تراكيب تراكمية للجوء الاقتصادي في بلاد العرب، ليُكمل شكل قوافل المهاجرين إلي خارج المنطقة العربية في موسم الهجرة إلي الشمال، الذي لا يقدر عليه إلا المقتدر مالياً ليدفع للمهربين “تحويشة العمر”. أما فقراء اللاجئين العرب فينتظرون في مخازن اللاجئين بالدول العربية لاستتمام معاملات الهجرة الشرعية والتي لا تشكل أكثر من 1% من أعداد المهاجرين في الوطن العربي، فمخازن اللاجئين أقل بكثير من مفهوم مخيم لاجئين حيث أنه يقتصر دورها على إبقاء اللاجئين أحياء دون أن يمارسوا حياة طبيعية كباقي المقيمين الأجانب في تلك الدول.
فالحقيقة أن اللاجئين يحلمون بالعودة إلي أوطانهم أو أماكن سكنهم قبل الحرب (وضع الفلسطينيين في سوريا على سبيل المثال لا حصر) ، إلا أنهم لا يرون أفق لإنهاء الحروب الأهلية في بلادهم، ومن زاوية أخرى بدأ اللاجئون يرفضون مفهوم مخازن اللاجئين والقيود المفروضة عليهم من الدول المضيفة والمنظمات الدولية، بل أن بعضهم يخاطر بالعودة إلي الوطن المنكوب، كما أن معدل النزوح داخل البلاد المنكوبة في تصاعد مستمر، بل أن عدد النازحين داخل أوطانهم يفوق عدد اللاجئين في مخازن اللاجئين في دول الجوار. كما أن اللاجئين الهاربين من مخازن اللاجئين في دول الجوار للبلاد المنكوبة إلي الدول الأوروبية الغربية لا يعني تحولهم مباشرة لمهاجرين، فهذا تعميق للمشكلة وكفر بحق المواطنة تفرضه الدول المضيفة في الجوار العربي كما في أوروبا، إن تحويل مطالب اللاجئين المعرّفة بالقانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان إلي مطالب مهاجرين ليس لهم مطالب سياسية في حل أزمة بلادهم بل أن العديد من الدول تطلب منهم الانسلاخ السياسي لكل ما يمثل وطنهم المنكوب، ويتم تحميل من يمارس أي نشاط سياسي تهم الانتماء للنظام والمعارضة معاً في أكبر ظلم تشهده الانسانية بحق مفهوم اللاجئين الهاربين من الاقتتال الداخلي في بلادهم.
ومن منظور آخر، تتعطش أسواق العمل في أوروبا لهجرة العمالة الرخيصة الغير مكلفة، بل أن أغلب الدراسات تُقر أن اللاجئين العرب أعلى مهارة من باقي اللاجئين وأكثر تعليماً وأقرب للاندماج في التركيب الاقتصادي الأوروبي، لكن المشكلة الجديدة هي الاتجاهات الدينية المتشددة في المنطقة العربية وكذلك في أوروبا فهي تُشكل اليمين المتطرف الرافض لمفاهيم التعدد الثقافي، الركيزة الأساسية للمجتمعات الأوروبية. وفي نظرة تاريخية نرى أن الدول الغربية أثناء الحرب الباردة مع الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي احتضنت المعارضة العربية الدينية اليمينية وقدّمت لها الحماية والدعم المالي والإعلامي لمقاومة المد اليساري بالوطن العربي، بل أنها سمحت له بتمثيل الجاليات العربية في بلاد الاغتراب في محاولة لإسقاط الأنظمة اليسارية الحاكمة بالدول العربية. فأغلب مؤسسات الجالية العربية في أوروبا كانت إسلامية الطابع وتمويلها من ميزانية الحكومات المستضيفة.
وفي بداية الثمانينات من القرن المنصرم، تم تجييش المعارضة الدينية اليمنية المهاجرة في صفوف المجاهدين العرب بحرب جمعت أهداف الغرب والجماعات الدينية اليمنية العربية ضد دخول القوات السوفياتية إلي أفغانستان، ومهما قيل على تلك المرحلة إلا أنها تعد أزهى مراحل تطور العلاقة بين المجموعتين، بل أن الدول الغربية فرضت على الدول العربية ضرورة قبول هذه الأفكار داخل حظائر الإعلام العربي المُوَجّة ضد الشيوعية والالحاد. ومهما قيل على تبدل العلاقة بين الطرفين إلا أن مصالحهم السياسية العليا مازالت مشتركة، بل أنها موَحدة في الصيغة العامة لشكل العلاقة بين الغرب والعرب. وإن كانت الأصوات التي تُطالب في منع هذه المؤسسات من العمل داخل الدول الغربية إلا أنها تحصل على 85% من الموازنة الحكومية لدعم مؤسسات الجاليات العربية. وأكثر من هذا فهي المؤسسات التي تجمع وترسل الأموال دون أن تكون مطالبة بإظهار كشوفات أعمالها لرأي العام، كما أنها تُعد الناطق الرسمي باسم الجاليات العربية بالدول الغربية، التي تتعامل بإهمال مقصود لكل المؤسسات الوطنية والقومية للجاليات العربية.
أما نظرة للجاليات العربية في أوروبا من الناحية المجتمعية فهي جاليات عاملة فاعلة منتجة في المجتمع، وتُعد نسبة التعليم والتوظيف بها عالية مقارنة مع المهاجرين من بلاد أخرى، كما أنها الأكثر خصوبة بعدد المواليد والمحافظة على القيم الأسرية، لكنها أيضا الأكثر تمسك بأوطانها الأصلية حيث أنها تُرسل أكثر من 20% من دخلها إلي أقاربها بالوطن أو حتى مؤسسات اجتماعية وانسانية في أوطانهم الأصلية. ومن جانب آخر فإن أغلب المهاجرين من الجيل الأول منغلقين اجتماعيا في محيط يدور حول الوطن وذكرياته، مما جعل العديد من الدارسين يصنفونهم باللاجئين الاقتصاديين أكثر من السياسيين. أما الجيل الثاني من المهاجرين فهم المحتولين بين الغرب والعرب وعلى حد وصف علماء النفس أنهم يُشكلوا قومية مستقلة بلغة مختلطة وعادات مركبة وأحلام معلقة لكن ولاؤهم للحضارة الغربية عالٍ وتفهمهم لتعددية الثقافية يجعلهم مواطنين غربيين مميزيين.
لكن الدول الغربية الرأسمالية تُعاني أمراض الترهل المجتمعي نتيجة اتباع نمط الحياة الاستهلاكي، ومهما قيل عن دولة الآلة وإنتاج التقنية العالية لتخفيض عدد العمال إلا أن المجتمع الغربي يتناقص تعداده بشكل متسارع نتيجة العزوف عن الزواج وقلة عدد المواليد وإرتفاع متوسط عمر الفرد، والحل الطبيعي هو فتح باب الهجرة لسد العجز المحلي بعدد القوى العاملة. إلا أن إرتفاع معدلات الهجرة خلال العقدين الماضيين منح فرصة اختيار نوع المهاجرين القادرين على الاندماج في سياسة التوطين الجديدة. فالمفهوم تغير من أقصى اليمين الديني الرافض للشيوعية إلي أقصى اليسار والأقرب ليكون لا ديني بامتياز مما سبب في استحداث مفاهيم القيم الثقافية الوطنية المطلوب من اللاجئ الإيمان بها. بل أن دول غربية عديدة تقيم امتحانات للمهاجرين الجدد لتأكد أنهم فهموا وحفظوا القيم الثقافية الوطنية، وقد تُبالغ بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية بالمطالبة بإقرار خطي من كل مهاجر أنه لا يعارض زواج مثليين أو الاعتراف بحق اليهود بإقامة إسرائيل، إلا أن أغلب البرلمانات الأوروبية اعتبرت هذا الأمر تعدي على الحرية الشخصية ومنافي للقيم الثقافية الوطنية التي تعترف بحق الاختلاف السلمي وتعددية السياسية.
إلا أن الدول الغربية تُصر على وضع المهاجرين في مخازن اللاجئين لفترة قد تستمر لمدة عامين لحين تحويل اللاجئين إلي مهاجرين اقتصاديين قادرين على دخول سوق العمل مع ترسيخ قيم الثقافة الوطنية فيهم، وهي تشمل على تعلم لغة وطنه الجديد وإلمام بالنظم والقوانين العامة بالبلاد مع ترغيب المهاجرين للإيمان بالتعدد الثقافي بما فيه المخالف لقناعاتهم مثل تعامل الطبيعي مع المثليين والانفتاح المجتمعي القريب من الإباحية في علاقة بين الجنسين تتجاوز مفهوم الاختلاط بالمدرسة والعمل إلي تقليل أهمية دور الأسرة بتوجيه أبناؤهم عند وصولهم سن المراهقة على سبيل المثال لا الحصر. وفي النظر إلي أن أغلب اللاجئين العرب هم قادمين من دول منكوبة بحروب أهلية أو بلاد ذات أوضاع اقتصادية صعبة فهم لا يبدون مقاومة واضحة لهذا النهج في التعامل معهم، إلا أن دراسات عديدة تؤكد أن الجانب الديني هو الأكثر تأثيرا في أي قرار يتخذه المهاجر أثناء وجوده في مخازن اللاجئين في الدول الغربية، والسبب واضح فهو رافض لكل الأفكار السياسية في بلده وكل مناهج التفكير عنده باتت ساقطة في معادلة الحياة، فلقد حاول استخدام العلم والفكر في زمن الحرب لكن الحرب هدمت جزء مهم في إيمان اللاجئ العربي وكل قناعاته هُزمت في زمن انتصار البارود.
في خضم هذه التحولات في فكر اللاجئين العرب يصعب على الدول الأوربية الغربية التعامل معهم كمهاجرين مقبولين في المجتمع، رغم أن الدراسات العلمية تُثبت أنهم الأفضل انتاجاً مقارنة مع غيرهم من اللاجئين، ومن جانب آخر لا تسعى الدول الأوروبية الغربية لتخزينهم واستخدامهم في حروب مستقبلية، بل أن العديد من الاقتصاديين قرأ عودة اللاجئين للعراق وأفغانستان في أولى سنوات الاحتلال الأمريكي بأنه كارثة على الاقتصاد الأوروبي، وأن هذا الجيل كلّف أوروبا مليارات الدولارات ولا يمكن تركه يعود إلي بلده دون مقابل، بل أن المغريات التي قدمتها الدول الأوروبية الغربية عجّلت من عودتهم لها قبل استعار الحروب الأهلية. وفي جانب آخر ترفض الدول الغربية تجيش مواطينيها في حرب الأخوة بالبلاد المنكوبة، بل أن هناك دول غربية سحبت الجنسية من مواطنين ذوي أصول عربية مولودين في أوروبا لانتماؤهم المسلح مع تنظيمات يمينية دينية.
إذن لا يوجد لجوء لدول الأوروبية الغربية بل هي هجرة أبدية لتحوّل إلي مواطن مؤمن بالتعدد الثقافي والقيم الثقافية الوطنية، وهي مثل حذاء سندريلا موجود ومعلوم المقاس لكن كل اللاجئين العرب يفضلوا أن يجربوا بأنفسهم فقد يكون مناسب لهم أو أنهم مناسبون له، في تبادلية المنفعة والمصلحة المشتركة، تضغط الدول الغربية على المهاجرين ليخوضوا حرب العبيد فيما بينهم لتحصل أوروبا على مواطنين بأقل كلفة ممكنة، ومن جانب آخر تقطعت السُبل باللاجئ العربي وطال ليل الانتظار لحرية المواطن في بلده، إلا أن الأمل في أوروبا على رغم من كل العراقيل ستكون أوسع من مخازن اللاجئين، وأن الحلم الصغير سيتحقق في بيت آمن بعيداً عن الصواريخ التائهة في حرب الأخوة وأطفال يتعلمون المحبة ويبغضون العصبية، فليس المال ما يسعى له المهاجرين العرب- رغم أهميته- بل يريد أن يعيش الحرية ويُمارس الديموقراطية ويهتف للعدالة، دون أن يفقد موروثه الثقافي والديني في معادلة قد لا تعني له الكثير لكنها بالنسبة لراسمي السياسة الأوروبية تعد أهم معضلة تواجه مفهوم المواطنة في أوروبا.
خالد أبوعدنان
ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا
16/1/2016