لقد نسيت أن أموت
التفكير من خلال إعادة الإنتاج الاجتماعي للحياة الفلسطينية[i]
بقلم تيثي بهاتاشاريا[ii]
ترجمة خالد غنام – استراليا
اليوم هو اليوم الـ 134 للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والتي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وحتى قبل الضربة الهجومية الأولى لحركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وصفت العديد من المصادر الإعلامية عام 2023 بأنه “العام الأكثر دموية على الإطلاق” للفلسطينيين في الضفة الغربية. وقتلت القوات الإسرائيلية 395 فلسطينيا في الضفة الغربية في ذلك العام، في حين كان المستوطنون مسؤولين عن 9 عمليات قتل أخرى. وفي حين أن جرائم القتل مثل هذه تمثل وقفًا مباشرًا للحياة، فإن إسرائيل لا تزال تمارس أشكالًا أخرى من العنف، على سبيل المثال الهجمات على المستشفيات والمدارس، التي تعيق عملية صنع الحياة للفلسطينيين. في فلسطين، الحرب المعلنة هي تصعيد مكاني وزماني لحرب بطيئة ومستمرة ضد شعبها.
في هذا المقال، وباستخدام عدسة نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي (SRT)، أبين أن التعطيل (من خلال السياسات) أو الإبادة (من خلال العنف) للحياة الفلسطينية هو أمر متأصل في المشروع الصهيوني. وبالتالي، في دورة العنف الحالية هذه، تستهدف إسرائيل نوعين من القدرات الإنجابية الاجتماعية: مؤسسات إعادة الإنتاج الاجتماعي مثل المدارس والمستشفيات؛ وجيل المستقبل أي الأطفال. تريد إسرائيل القضاء على الحياة والقدرة على إعادة إنتاج حياة مستقبلية. وبالتالي فإن وقف إطلاق النار لا يمكن أن يكون سوى مطلب أساسي. إن ازدهار الحياة في فلسطين يتطلب أكثر من مجرد وقف القتل؛ فهو يتطلب ما اعتقده ماركس على أنه تحقيق البقاء النوعي. إن إبداع المقاومة الفلسطينية الذي لا يمكن القضاء عليه يلقي أوضح ضوء على ما يمكن أن يعنيه البقاء النوعي، بل ويجب أن يعنيه.
إعادة النظر في صناعة الحياة من خلال الفكر الماركسي
استخدمت نسويات التكاثر الاجتماعي صيغة صناعة الحياة لتحديد الطرق المتعددة التي يعمل بها البشر لتحويل الطبيعة للحفاظ على أنفسهم وتلبية الاحتياجات. استخدم هذا المفهوم لفهم المقارنات والارتباطات والنتائج العاطفية بين النقاط العقدية للعنف الصهيوني، المباشرة وغير المباشرة. للاعتراف بالاستمرارية بين العدوان العسكري والاحتواء العسكري للحياة الفلسطينية، علينا أن نبدأ من زعزعة الاستقرار، وإضعاف، وإبادة القدرات الفلسطينية على إعادة الإنتاج الاجتماعي. إن صناعة الحياة كمفهوم توفر لنا النسيج الضام التحليلي بين تلك النقاط العقدية.
في دفاتر الملاحظات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، يقودنا ماركس من خلال التمييز الدقيق بين العمل المغترب وغير المغترب. فالأول، في ظل التوجيه الرأسمالي، يبدو “خارجيًا بالنسبة للعامل”، بينما في الأخير يكون من صنع البشر أنفسهم: “نشاط الحياة نفسه موضوعًا لإرادته ووعيه”[iii].
نحن كبشر نتعمد فصل الأمور عن قصد: فنحن لا نندمج مع عملنا (كما يفعل العنكبوت). حيث يركز عدد كبير جدًا من الماركسيين على الغذاء والمأوى وما إلى ذلك عند الاستشهاد بالمنتجات الناتجة عن تأثير البشر على الطبيعة. ومع ذلك، رأى ماركس أن هذه الضروريات العارية لصنع الحياة هي أمثلة محدودة. إذن ما هو صنع الحياة بالمعنى غير المقيد؟
يستخدم ماركس كلمة روحي اثنين وعشرين مرة في هذا العمل. ويشير إلى العمل البشري باعتباره شكلاً من أشكال النشاط الذي “يظهر فيه كل التنوع الطبيعي والروحي والاجتماعي للنشاط الفردي”[iv]. وهذا أكثر ما يذهل من تدبر وعالمية للعمل البشري، حيث لا نعمل ببساطة “تحت سيطرة الحاجة المادية المباشرة” فحسب، ولكن حتى عندما نكون “متحررين من الحاجة المادية” أيضاُ، وبالتالي يكون النشاط البشري “فقط وبشكل حقيقي… [ننتج] في عملية صناعة الحرية نفسها.[v]”
إن التمييز بين صناعة الحياة من خلال أنظمة العمل الرأسمالية وصناعة الحياة في ظل ظروف الحرية هو موضوع ثابت لدى ماركس. لقد استخدم الإطار الأرسطي، الذي توسط فيه هيجل، لمناقشة الحريات الرسمية، المتاحة في ظل الرأسمالية، وعدم الحرية والاغتراب الذي يكمن تحتها. فقد اتفق ماركس مع المنظرين الليبراليين على أن شرط الحرية تاريخي، وأنه، حتى في إجراءاته الأولية، يجب أن يرتكز على تلك الضروريات البسيطة اللازمة لصنع الحياة. ومن ثم فقد زعم أن “عالم الحرية” يبدأ حقًا “فقط حيث ينتهي العمل الذي تحدده الضرورة والنفعية الخارجية”[vi].
باتباع الفكر الماركسي، يمكننا تمييز بوضوح بين العيش (شكل من أشكال صناعة الحياة في ظل الظروف الرأسمالية للحريات الرسمية، ولكن العمل المغترب) والازدهار (شكل من أشكال صناعة الحياة موجود في كينونتنا البشرية).
حيث أن هذا التمييز صارخ عند ماركس، وهو كذلك الواضح أيضًا في حياتنا اليومية في ظل الرأسمالية، كثيرًا ما نلقي نظرة على ما أُسميه الازدهار. إذا كان العمل المغترب هو الذي تفرضه قوة خارجية على العامل، فإن العمل غير المغترب هو الذي يتم اختياره بحرية ويقرره العامل نفسه. وفي السياق العام للاغتراب المنهجي، ما زلنا نغذي نباتاتنا وحيواناتنا وأطفالنا، ونصنع الفن، ونمارس الجنس بشكل رائع – كل أشكال العمل التي ننخرط فيها بحرية نسبية. في كرّاسة أسس نقد الاقتصاد السياسي، يشير ماركس إلى التأليف الموسيقي باعتباره “عملًا حرًا حقًا”، والذي يتطلب “أعظم جهد”، وهو “في نفس الوقت جدي للغاية”[vii].
وهكذا، عندما كتبت الشاعرة النسوية الفلسطينية رفيف زيادة[viii]: “نحن الفلسطينيين نستيقظ كل صباح لتعليم بقية العالم الحياة”، قرأت ذلك باعتباره تنظيرًا لاذعًا لسياسة صنع الحياة. قرأت ذلك كدعوة لاستكشاف ما يحدث لصناعة الحياة، سواء بالمعنى الحي أو المزدهر، في فلسطين.
النكبة وصناعة الحياة
تستخدم إسرائيل ثلاث استراتيجيات واسعة النطاق في التعامل مع حياة الفلسطينيين: الطرد، والقتل المتعمد للأجيال، والسيطرة على الخصوبة الفلسطينية. في حين أن الاستعمار الاستيطاني، كإطار تحليلي، يفسر هذا المشروع السياسة الحيوية[ix] للصهيونية، فإن نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي SRT ومفهومها الموسع لصناعة الحياة يسمح لنا بتوثيق الطرق المتعددة التي تحاول الدولة الصهيونية من خلالها منع الفلسطينيين ليس فقط من البقاء على قيد الحياة، ولكن من البقاء بشرًا.
إن مفهوم الوهن الرائع لجاسبير بوار[x] مفيد لنا هنا. من خلال دراسة مؤثرة للحياة السوداء (الأفارقة الأمريكان) والفلسطينية، تقدم لنا بوار نظرية للاقتصاد السياسي للقدرة الجسدية. ووفقا لبوار، فإن أجهزة الدولة القمعية تضع الموت والضعف في علاقة مثمرة مع بعضها البعض. تحتفظ الدول بالحق في أن تكون المصدر الوحيد للموت، لكن بوار توضح أن عدم قتل الفلسطينيين ليس “إنقاذًا إنسانيًا للموت”، ولكنه بالأحرى خطوة لجعلهم أكثر “وهنًا بشكل منهجي وكامل” – إنه “استخدام فاسي للسياسة الحيوية وبيان الحق في التشويه.” إن مثل هذا الوهن المستمر يخلق “نظام تسلطياً خانقًا” يربط المكان والزمان من خلال علاقات اجتماعية معقدة من العنف والاحتلال[xi].
وينبغي أن يمتد مفهوم بوار للضعف ليشمل تشويه مؤسسات صنع الحياة. وهذا المعنى متضمن في بوار عندما تناقش “حرب البنية التحتية” أو هجوم إسرائيل على البنية التحتية باعتباره “عنصرًا أساسيًا، بل مركزيًا، في التنظيم السياسي الحيوي لانهيار إنساني مرن”. وهي تعتمد على العمل الذي قام به عمر جباري سالامانكا[xii]، حيث تعيد إنتاج إشارته إلى السياسي الإسرائيلي دوف فيسجلاس الذي وصف السياسة الإسرائيلية بأنها “موعد مع اختصاصي تغذية. سوف يصبح الفلسطينيون أنحف قليلاً، لكنهم لن يموتوا”[xiii].
إن استمرار هذا الهجوم على صناعة الحياة، وهذه القوة الخانقة، وهذا التخفيف (إنقاص وزن) هو ما آمل أن أصوره هنا.
اختلاف الولادة
أما النهج السياسة الحيوية المعاكس تمامًا فهو مخصص للسكان اليهود المحليين في إسرائيل. منذ عام 1948، قامت إسرائيل بتكريس سياسات مؤيدة للإنجاب في مؤسساتها التي لا تعد ولا تحصى، مما يشكل نظامًا إنجابيًا من خلال المكافآت المالية واللجان التي تضمن معدل مواليد متزايد. قام المنظرون النقديون مثل سيغريد فيرتومين ونيرا يوفال ديفيس بتتبع هذه المبادرات، من بين أمور أخرى، في جائزة البطلة لعام 1949 للأمهات اللاتي لديهن عشرة أطفال، والمركز الديموغرافي لعام 1968 مع صندوقه لتشجيع الولادة، ومؤخرًا، المجلس الإسرائيلي للديمغرافيا لعام 2002. 8. وقد لاحظت ميرا فايس بالمثل الاتجاه العميق لتحسين النسل في الصهيونية والذي، تاريخيًا، من خلال “ثورة جسدية”، يهدف إلى “خلق شعب جديد مناسب لأرض جديدة”. كان الجسد اليهودي المثالي الذي نشأ عن هذه السياسات هو “الذكورة، اليهودية، الأشكنازية، المثالية، والصحية” – وهو الجسد الذي يسميه فايس “الجسد المختار”[xiv].
وفي الوقت نفسه، يحق لجميع الأمهات في إسرائيل الحصول على إجازة أمومة، كما يحق لعدد كبير الحصول على بدل أمومة. يتحدث مواطنو تل أبيب عن المدينة باعتبارها مدينة “معروفة بتدليلها للأمهات الجدد”. تقيم مقاهي المدينة “أنشطة يومية “أنا وأمي” مثل الفنون والحرف اليدوية والعلاج الطبيعي والتدليك وعيادات التمريض والنوم”. وكجزء من هذا الازدهار، يتم ضمان حصول الطفل اليهودي الإسرائيلي على تعليم عام مجاني في نظام مدرسي يحتل المرتبة الخامسة في العالم (قبل كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة).
اليوم هناك تقنيتان واسعتان تشكلان السياسة الحيوية الصهيونية، إحداهما تتمحور حول الخصوبة والأمومة والثانية حول تشخيص الجنين. وفي حين أن تقنيات المساعدة على الإنجاب (ART) باهظة التكلفة في أماكن أخرى، إلا أنها مجانية في إسرائيل. في عام 2010، أقر الكنيست الإسرائيلي قانون التبرع بالبويضات المثير للجدل والذي يسمح للنساء بالتبرع ببويضاتهن مقابل تعويض مالي، وبالتالي يسمح للنساء المصابات بالعقم بطلب التبرع بالبويضات. لكن تعديلات القانون نصت على أن المتبرع والمتلقي للبويضة من نفس الدين، مما يجعل من المستحيل على امرأة يهودية التبرع بخلية بويضة لشخص مسلم أو مسيحي أو درزي والعكس.
المجموعة الثانية من التقنيات تظهر بعد الحمل. وتتصدر النساء الإسرائيليات اليهود العالم في مجال علاج المواليد ومراقبة الجنين، حيث تخضع 60% منهن لاختبارات تشخيصية قبل الولادة. ويفضل الآباء الإسرائيليون الإجهاض، حتى في حالات “الضعف” الجسدي الطفيف مثل الشفة المشقوقة، مما دفع فايس إلى التعليق بأن “الهوس الإسرائيلي بالخصوبة لا يشمل الكمية فحسب، بل يشمل الجودة أيضًا”.
المجموعة الثانية من التقنيات تظهر بعد الحمل. وتتصدر النساء الإسرائيليات اليهود العالم في مجال علاج المواليد ومراقبة الجنين، حيث تخضع 60% منهن لاختبارات تشخيصية قبل الولادة. ويفضل الآباء الإسرائيليون الإجهاض، حتى في حالات “الضعف” الجسدي الطفيف مثل الشفة المشقوقة، مما دفع فايس إلى التعليق بأن “الهوس الإسرائيلي بالخصوبة لا يشمل الكمية فحسب، بل يشمل الجودة أيضًا”.
إن إعادة الإنتاج الاجتماعي لصناعة الحياة الإسرائيلية لا يقتصر بالطبع على تقنيات الولادة وحدها. إن البنية التحتية المجتمعية والحكومية بأكملها تضمن ازدهار الحياة الإسرائيلية وإبادة/إضعاف الفلسطينيين. تختلف طرق الإضعاف في فلسطين التاريخية. إن التقسيم المتعمد لفلسطين إلى أنظمة سيطرة مختلفة يضمن العنف اليومي ضد الفلسطينيين في هذه الأراضي غير المعترف بها، مما دفع نورا عريقات إلى تقييم أن إسرائيل تحاول تحقيقه في غزة “بالحرب، وهو ما تسعى إلى تحقيقه في الضفة الغربية من خلال الأحكام العرفية، وفي القدس الشرقية من خلال القانون الإداري”، وفي باقي فلسطين التاريخية من خلال القانون المدني[xv]. بطرق مختلفة، ومع تفاقم بعضها البعض على وجه التحديد بسبب هذا الاختلاف، تمنع الاستراتيجيات الإسرائيلية بالقوة ازدهار الفلسطينيين من خلال التحكم في المسارات الرئيسية لصنع الحياة.
وتستخدم الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي مقاييس معينة للحكم على ما يسمونه بالتنمية، وهو ما أسميه أنا بالازدهار. يتم استخدام الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والسكن والرعاية الصحية والتعليم باعتباره السجل التقييمي الأكثر شيوعًا. وفي فلسطين، يتم الوصول إلى كل منها من خلال التقنيات الاستعمارية. علاوة على ذلك، في حين أن مثل هذه السجلات تشكل “قائمة” من نوع ما، إلا أنني أريد أن ألفت الانتباه إلى نموذج العمليات الإسرائيلي القابل للتعميم والذي يشكل الإطار الذي تناسبه جميعها. وبعبارة أخرى، تنظم إسرائيل الفضاء والناس بطرق معينة تضمن نمو وتوطيد القوة الاستعمارية.
العيش مقابل الازدهار
لقد علمتنا الدراسات المناهضة للاستعمار أن المناظر الطبيعية تتكون من سياسات تنتج الطبيعة ليس فقط كموقع للعمل البشري، ولكن أيضًا كفئة إضافية للفكر والخيال. ولنتأمل هنا مكانة الأسماك في فلسطين. طعم ورائحة السمك موجودان في العمارة الخلوية للتاريخ الفلسطيني. تنسج الحكايات الشعبية هذه التواريخ في حكايات ملك الأسماك، بينما يعهد الشبت والثوم والفلفل الحار بهذا التاريخ إلى الحواس. لكن المياه التي تغمر غزة ليست محايدة، ولا تخلو من الأطر الاستعمارية. يُسمح للصيادين في غزة بالصيد على بعد ستة أميال بحرية أو أقل من الشاطئ عندما تكون معظم الأسماك على بعد تسعة أميال على الأقل في البحر. ولا يمكن للمحيطات والصحاري والصخور والأسماك أن ترتبط بالفلسطينيين إلا من خلال السيطرة الإسرائيلية، وبالتالي خلق ما أسمته إليزابيث بوفينيلي “جيونتولوجيات[xvi]” القوة الاستعمارية.
وفي عام 1967، أصدرت إسرائيل مرسومًا يمنع الفلسطينيين من بناء أي منشأة مياه جديدة دون تصريح. ولا يزال الحصول على هذه التصاريح مستحيلا، مما يمنع الفلسطينيين من حفر الآبار أو تركيب المضخات. إن نهر الأردن، الذي دُفن في واديه بعض من صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم[xvii]، أصبح الآن بمثابة جرح في حياة الفلسطينيين، حيث يُمنعون من الوصول إلى مياهه: أكثر من 180 مجتمعًا فلسطينيًا ريفيًا في الضفة الغربية المحتلة يفتقرون إلى الوصول إلى المياه.
والوضع أكثر خطورة في قطاع غزة حيث مياه الشرب “مالحة مثل البحر”. علاوة على ذلك، منذ عام 2007، أبقت إسرائيل الأطفال الفلسطينيين في غزة على ما يسميه الجيش الإسرائيلي “نظام غذائي التجويع”. ويعيش ما يقرب من 80% من أطفال غزة على أقل من دولار واحد في اليوم، وبالتالي يعاني جزء كبير منهم من الجوع يوميًا، حيث تضاءلت إمكانية حصولهم على السعرات الحرارية الكافية بسبب الحصار المستمر[xviii].
وبينما تشوه نقاط التفتيش الأرض، يضطر العديد من الأطفال الفلسطينيين، في هذه الحالات، إلى السفر مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مدرسة. يتم تخصيص موارد للمدارس العربية أقل بنسبة 40% في المتوسط من التعليم العبري (على أساس كل طالب). في عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي قانون الدولة القومية الذي جرد اللغة العربية من مكانتها كلغة رسمية، مما أجبر الطفل العربي على أن يعيش حياة غير صوتية.
وهكذا يتم إعادة إنتاج الفلسطينيين بلا توقف وكأنهم لا مكان لهم في وطنهم. حتى الطرق تسن وتؤمن الإقصاء العنصري. لون لوحات الترخيص يحدد التنقل: لا يُسمح للسيارات التي تحمل لوحات ترخيص فلسطينية بالسير على الطرق الإسرائيلية، بغض النظر عن الهوية التي يحملها السائق. ويساعد جدار الفصل العنصري ونقاط التفتيش المتعددة على خلق متاهة جنونية من الشرعية عبر الأرض المشوهة، حيث عند كل نقطة اتصال مع الدولة الإسرائيلية، يتم إعادة إنتاج الفلسطيني قانونيًا وعاطفيًا باعتباره غريبًا.
تؤدي هذه السياسات التفاضلية لإعادة الإنتاج الاجتماعي إلى نتائج صارخة: أكثر من نصف العائلات العربية اعتبرت فقيرة في عام 2020، مقارنة بـ 40% من العائلات اليهودية. وهنا، أريد التأكيد على العلاقة الاستعمارية باعتبارها علاقة منتجة ومولدة، وليست ثابتة. إنه يعيد إنتاج نفسه ليس فقط من خلال القوانين وسياسات الدولة، ولكن من خلال التقسيم والتنظيم والاحتواء الشامل للجسد الاجتماعي بأكمله.
“نسيان الموت”
واليوم، تعبر إسرائيل عن جوهر الرأسمالية العالمية. إن التزام الدولة بالسيطرة غير المهيمنة، وتسميمها للبيئة الفلسطينية، ورفضها الصريح لمعظم أشكال الديمقراطية، يجسد الجوهر النظامي للرأسمالية عندما يتم تجريدها من الأشكال البرجوازية. إن ازدهار الحياة الإسرائيلية اليهودية يحتوي على غرض آخر ووظيفة تتجاوز طرد الفلسطينيين من الجسم الاجتماعي. مثل هذا الازدهار – الطرق الجميلة، والمروج الخضراء المروية – يسمح للمجتمع الإسرائيلي بتقليد الغرب عن كثب، وبالتالي التدرب على الاستعارات الاستشراقية القديمة للغرب المتحضر مقابل الشرق الهمجي. كما أن هذا التحديد يجعل الغرب أكثر تعاطفاً مع صناعة الحياة الإسرائيلية، حيث تستمر قيمة الحياة الإسرائيلية، في دفاتر الحسابات الغربية، في التحليق فوق الفلسطينيين.
حاولت في هذا المقال أن أوضح لماذا تعتبر البنى التحتية لصناعة الحياة في فلسطين سياسية بشكل فريد ومكثف وكيف يرتبط ازدهار الحياة الإسرائيلية بإضعاف صناعة الحياة الفلسطينية. تصور قصة أورسولا لي غوين[xix] القصيرة “الشخص الذي يبتعد عن أوميلاس: The One Who Walks Away from Omelas” هذه العلاقة العنيفة. نتعرف في القصة على مدينة تشبه الحكاية الخيالية، أوميلاس، حيث الحياة مثالية ووفيرة لجميع مواطنيها. لكن يكتشف أحد مواطنيها سرًا. الفظائع الوحيدة التي ارتكبها هذا المجتمع مدفونة في المدينة، إنه طفل يُظل في بؤس دائم وحالة من الذل. بمجرد أن يكبر مواطنو أوميلاس بما يكفي، يتم إخبارهم بهذه الحقيقة عن ازدهارهم، ويقبل معظمهم ذلك باعتباره تضحية ضرورية من أجل روعتهم؛ يبتعد البعض عن أوميلاس، لكن معظمهم يختار البقاء. إن صور المدنيين الإسرائيليين وهم يبتهجون وهم يمنعون دخول شاحنات المساعدات إلى غزة يجب أن تعيد صياغة رؤية لو جوين وتزعزع الفهم التقليدي للعنف الاستعماري.
ولكن إذا كانت هذه المقارنة مع أوميلاس تنطبق بشكل جيد على الإسرائيليين، فإنها تفشل بشكل حاسم في تمثيل الحالة الفلسطينية، لأن الفلسطينيين أبعد ما يكون عن ذلك الطفل الخيالي. وبدلاً من ذلك، فهم الأشخاص الأقرب إلى تعريف ماركس لكائن ذو البقاء النوعي الذي بدأنا به هذا المقال.
لاحظ المناضل الجنوب إفريقي باري فنسنت فاينبرج ذات مرة أن “عددًا كبيرًا بشكل غير عادي من القصائد ينبع من شعراء فلسطينيين”. ورد شاعر فلسطيني على تعليق فاينبرج قائلا: “الشيء الوحيد الذي لم يُحرم منه شعبي أبدا هو الحق في الحلم”. هذه سمة استثنائية، ولكنها ثابتة للحياة الفلسطينية على الرغم من مئة عام من العنف الاستعماري.
كلمات الشاعر الفلسطيني، كغيره من الشعراء، تحمل في طياتها تناقضاً لامعاً. من ناحية، يؤرخ الفن الفلسطيني الطرد/السيطرة العنيفة على الفلسطينيين من/داخل الجسم الاجتماعي، ولكن من ناحية أخرى، فإن وجود هذا الفن في ظروف الوهن هو رفض للترحيل الفلسطيني. مثل هذه التعبيرات عن حياة الفلسطينيين في الفن والحياة اليومية يجب أن تدفعنا إلى التفكير من خلال ادعاء ماركس بأن الموسيقى هي “عمل حر حقًا”، وأن مثل هذه الأعمال تشكل فكرة مهيمنة مستمرة داخل الاغتراب الرأسمالي وعلى الرغم منه.
إن فلسطين اليوم، كما أؤكد مجدداً، تحقق هذه السلالة الإنسانية التي لا يمكن كبتها داخل الرأسمالية – وهو السبب الذي يجعل النضال الفلسطيني، مثل ثورات العبيد في زمن ماركس ومقاومة الفيتناميين في الستينيات، يتردد صداه اليوم لدى قطاع واسع من المضطهدين الذين يرون أنفسهم مستقلين. النضال أو إنسانيتهم يتم التعبير عنها في نضال الفلسطينيين.
لقد عرف المستعمرون الصهاينة جيدًا قوة الإنسانية الفلسطينية. قال الجنرال موشيه ديان ذات مرة إن قراءة قصيدة لفدوى طوقان كانت بمثابة “مواجهة عشرين فدائي من عدو”. هكذا تحدث طوقان عن فلسطين في قصيدة حمزة:[xx] (هذه الأرض امرأة * في الأخاديد وفي الأرحام * سر الخصب واحد * قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلاً وسنابل * تُنبتُ الشعب المقاتلْ).
إن “الحلم” بفلسطين هذا يتجاوز بالطبع الطاقات الإبداعية الشكلية (مثل تأليف الشعر أو الموسيقى)، ولكنه حلم العودة والأوطان والتاريخ – مما يشير إلى مجموعة من الأعمال الواعية الهادفة للحفاظ على هذا “الحلم”. مثل هذا العمل “العقلاني”، الذي يهدف إلى كمال الازدهار البشري، هو في جوهره البقاء النوعي للإنسانية. يشير بيرتيل أولمان إلى أن أقرب ما توصل إليه ماركس لتعريف “الطبيعة البشرية بشكل عام” هو عندما قال: “إن الطابع الكامل للنوع… موجود في طبيعة نشاط حياته؛ والنشاط الحر الواعي هو طبيعة الإنسان النوعية.»[xxi]
ماذا يمكننا أن نسمي شعبًا يواصل باستمرار، وبلا توقف، على الرغم من كل مؤامرات ضده، القيام “بنشاط حر وواعي؟” وفي زمان ومكان آخر، كنا نطلق عليهم اسم العبيد الثائرين، أو الفيتناميين المقاومين. اليوم، بلا شك، نسميهم فلسطينيين. أو شعب يستمر، على الرغم من العنف المستمر والسلب، في التعبير عن الغريزة الأساسية للإنسانية، أي معنى أن تكون حراً. وينهيه محمود درويش قصيدته “في القدس”: (ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ: هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟ قلت: قَتَلْتني… ونسيتُ، مثلك، أن أَموت).
[i] – نشر باللغة الإنجليزية يوم 22 مارس 2024 على الموقع الالكتروني https://spectrejournal.com/i-forgot-to-die/
[ii] – أستاذة مشاركة في تاريخ جنوب آسيا في جامعة بوردو. وهي ناشطة نسوية ماركسية بارزة وأحد المنظمين الوطنيين للإضراب النسائي العالمي في 8 مارس 2017. بهاتاشاريا هي مدافعة قوية عن الحقوق الفلسطينية وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). وهي واحدة من مؤلفي كتاب بيان النسوية من أجل 99٪، الذي يربط النسوية بأنماط النضال الأخرى، بما في ذلك مناهضة العنصرية ومعاداة الرأسمالية. حول موضوع الجنس، كتبت بهاتاشاريا كتاب حراس الثقافة، والذي تطور من أطروحتها حول الطبقة المتوسطة المتعلمة في إقليم كلكتا الهندي بحقبة الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر. وقد كتبت أيضًا عن سياسات الإسلاموفوبيا والمرأة في الإسلام. في مارس 2022، كانت بهاتاشاريا واحدة من 151 ناشطة نسوية دولية وقعت على بيان المقاومة النسوية ضد الحرب: بيان، تضامنًا مع المقاومة النسوية المناهضة للحرب التي بدأتها النسويات الروسيات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
[iii] – Karl Marx, Economic and Philosophic Manuscripts of 1844, ed. Martin Milligan (Mineola, New York: Dover Publications, 2007), 72, 75.
[iv] – Marx, Economic and Philosophic, 22.
[v] – Marx, Economic and Philosophic, 75.
[vi] – Karl Marx, Capital: A Critique of Political Economy, Volume III, trans. David Fernbach (Harmondsworth: Penguin 1992), 958.
[vii] – Karl Marx, “Grundrisse” in David McLellan, ed., Karl Marx: Selected Writings (Oxford: Oxford University Press, 1977), 368, emphasis in the original.
[viii] – شاعرة وناشطة حقوقية فلسطينية-كندية، حاصلة على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة يورك في تورونتو، وعضو مؤسس في الائتلاف المناهض للتمييز العنصري الإسرائيلي (CAIA)، بالإضافة إلى كونها من المنظّمين لأسبوع الأبارتهايد الإسرائيلي العالمي في جامعة تورونتو.
[ix] – السياسة الحيوية (biopolitics) بالنسبة لفوكو، تشير إلى ممارسات وصلاحيات شبكة السلطة التي تدير تخصصات الجسد والسكان. إنها منطقة لقاء بين السلطة ومجالات الحياة. الذي يتحقق بشكل كامل في عصر معين: عصر الانتشار الكامل والشامل للرأسمالية.
[x] – أستاذة أمريكية في جامعة روتجرز. أحدث كتاب لها هو “الحق في التشويه: الوهن والقدرة والإعاقة” (2017). بوار هي مؤلفة كتاب التجمعات الإرهابية الحائز على جوائز: القومية المثلية في أوقات المثليين (2007). كتبت عن الإنتاج الثقافي لجنوب آسيا في الشتات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وترينيداد، وسياحة المثليين، ودراسات الإرهاب، ودراسات المراقبة، والسياسة الحيوية والسياسة الميتة، والإعاقة والوهن، ونظريات التقاطعية، والتأثير، والتجمع؛ الدراسات الحيوانية وما بعد الإنسانية، والقومية المثلية، والغسل الوردي، والأراضي الفلسطينية.
[xi] – Jasbir Puar, The Right to Maim: Debility, Capacity, Disability (Durham and London: Duke University Press, 2017), 108, 135.
[xii] – عمر جباري سالامانكا هو زميل باحث في FNRS في REPI (Recherche et Etudes en Politique Internationale). تركز أبحاثه وتدريسه على التاريخ والجغرافيا ونظريات التنمية والاقتصاد السياسي والإيكولوجيا السياسية ودراسات العلوم والتكنولوجيا في السياقات الاستعمارية. وهو مهتم أيضًا بالتاريخ العالمي والممارسات الأرشيفية لحركات التضامن المناهضة للاستعمار.
[xiii] – Puar, The Right to Maim, 135.
[xiv] – Meira Weiss, The Chosen Body: The Politics of the Body in Israeli Society (Stanford, California: Stanford University Press, 2002), pp. 1–4.
[xv] – Sai Englert, Michal Schatz, Rosie Warren eds. From the River to the Sea: Essays for a Free Palestine, (New York: Verso, 2023), 13.
[xvi] – يسمى التغيير الجيولوجي للسكان Geontologies علم يدرس جيولوجيا تشكيل القوة هذا من منظور مناورات السكان الأصليين (الفلسطينيين) ضد دولة المستوطنين (الصهاينة).
[xvii] – ويضم وادي الأردن على امتداده أضرحة الصحابة: معاذ بن جبل، شرحبيل بن حسنة، عامر بن أبي وقاص، ضرار بن الأزور. وبالقرب من الطفيلة يقع ضريح كل من الحارث بن عمير الأزدي وفروة بن عمر الجذامي. وأبو ذر الغفاري بالقرب من مادبا، وأبو الدرداء في قرية سوم الشناق، قرب إربد.
[xviii] – Dr. Ghannam quoted in Hashem Said and Zahriyyah Ehab, “Gaza’s Kids Affected Psychologically, physically by a Lifetime of Violence,” Al Jazeera, July 31, 2014.
[xix] – أورسولا كروبر لي غوين (بالإنجليزية: Ursula Kroeber Le Guin)، وُلدت يوم 21 أكتوبر عام 1929 وتوفيت يوم 22 يناير عام 2018، وكانت كاتبةً أمريكيةً اشتُهرت بأعمالها في الخيال التأملي، بما يتضمن أعمال الخيال العلمي التي تقع أحداثها في عالم هاينيش الذي ابتكرته، بالإضافة إلى سلسلة الفانتازيا إيرثسي. بدأت لي غوين تنشر أعمالها في عام 1959، وامتد عملها الأدبي لمدة 60 عامًا تقريبًا، ليثمر أكثر من 20 روايةً وأكثر من مئة قصة قصيرة، بالإضافة إلى الشعر، والنقد الأدبي، والترجمات، وكتب الأطفال. وُصفت لي غوين بشكل متكرر بأنها مؤلفة خيال علمي، وأُطلق عليها أيضًا «الصوت الرئيسي للأدب الأمريكي»، وقالت لي غوين أنها تفضل أن تكون معروفةً بـ«الروائية الأمريكية»
[xx] – https://www.arabicnadwah.com/arabpoets/hamzah-fadwah.htm
[xxi] – Bertell Ollman, Alienation: Marx’s Conception of Man in Capitalist Society (Cambridge: Cambridge University Press, 1977), 109.